الغيرة والحمية الإسلامية

  • خطبة الجمعة - الغيرة والحمية
    خطبة الجمعة - الغيرة والحمية
  • خطبة الجمعة - الغيرة والحمية
    خطبة الجمعة - الغيرة والحمية
  • خطبة الجمعة - الغيرة والحمية
    خطبة الجمعة - الغيرة والحمية

الشيخ: محمد أبو النصر
التاريخ: 26/ ربيع الثاني/1437هـ
الموافق: 5/ شباط/2016م
الجامع: أحد مساجد حلب المحررة
مدة الخطبة: 37 دقيقة

الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى
1- يحبُّهم ويحبونه
2- الله يغار والمؤمن يغار
3- الغيرة والحميَّة لازمٌ طبيعيٌ للمحبَّة
4- نماذج مشرقة من غيرة السلف الصالح على حُرمة الإسلام وأهله
5- الحميَّة الإسلاميَّة التي ربَّى عليها النبي الرجال والنساء والأطفال
6- من ثمار الثورة عودة الحميَّة الإسلاميَّة ونماذج مشرقةٌ نراها كلَّ يوم
7- أيكون الكفار لكفرهم أشدَّ حميَّةً منك لإسلامك ؟!!

الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية
8- الغيرة لا علاقة لها بالالتزام وقد تكون من المُقصِّرين
9- دعوى الحبِّ الحقيقية
10- ما أقلَّ الرجال وما أكثر الذكور

رابط الخطبة على الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

تابعوا كل مميز عبر قناتنا على التليغرام على الرابط التالي
https://telegram.me/do3atalsham
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، فاستدرج الكفار بمكرِه وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُدافع، والظاهر عليهم فلا يُمانَع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع ولا يُنازع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّةَ وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد، مَن آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابِه الغُرِّ المحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد عباد الله يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)) (المائدة:).

فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ، وهم خاصَّته من خلقه المنصورون، وإن طال المدى، وإن زاد الأسى، وإن عَظُمَ تكالب العِدا فالله تعالى أعظم وأكبر، ونصر الله آتٍ لا محالة، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد: 31)

بلاء يبتلي الله به العباد، يبتلي من يختبِرُهم، ليستبين الناسُ حالَ من ينصُرُهم، حالَ حِزب الله الغالِبين، خاصَّةُ اللهِ مِن خلقه… قومٌ توفَّرت فيهم صفات وتحقَّقت فيهم شروط، أوَّل أوصافِهم: يُحبُّهم الله ويحبُّونه…

وعندما نتحدَّث عن قومٍ يحبهم الله ويحبونه، فنحن نتحدَّث عن حبيبٍ ومحبوب، نتحدَّث عن عبدٍ أحبَّ ربَّه حبًّا حقيقيًّا فقدَّم لأجل حبِّه الغالي والرخيص وبذَلَ النفس والنفيس، باعَ، واللهُ اشترى، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(التوبة 111)، عندما نتحدث عن محبَّة الله لعباده فنحن نتحدَّث عن محبَّةٍ ليست كمحبَّة العباد، محبَّةٌ للمؤمنين الصابرين لا زمها نصرٌ وتأييدٌ ومعونة وإن كان ذلك بعد بلاء، وإن كان ذلك بعد شدَّة وامتحان، وإن كان ذلك بعد حين، عندما نتحدَّث أيها السادة عن الحبِّ والأحباب لا بدَّ أن نتحدَّث عن غيرة المُحِبين، غيرةَ المُحِبِّ على محبوبِه… وهل سمعتم يومًا أيُّها السادة الكرام، بمُحِبٍّ لا يغارُ على محبوبه؟ فكيف إذا أحبَّك الله سبحانه ؟!! وكيف بالعبيد الذين أحبُّوا ربَّهم حقَّ المحبَّة … وفي البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ»

فالله تعالى يغار على حُرماته، والمؤمن الحقّ يغارُ على حُرمةِ الله، على حُرمة دينه على حُرمة شريعته، وهذه الغيرة أيُّها السادة هي نِتاجٌ طبيعيٌ لإيمان المؤمنين، ولإخلاصِ الصالحين المُصلحين… هذه الغيرة – أيُّها السادة – وما يستتبعها مِن حميَّةٍ إسلاميَّة هي التي ربَّى عليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصحب الكِرام؛ ربَّى عليها الكبار والصغار، ربَّى عليها الرجال والنساء، الفتية والفتيات، ربَّى مُجتمعًا امتلأ قلبه بحب الله فامتلأت نفسه غيرةً على حمى الله، ودفعته تلك الغيرة والحميَّة للجهاد والزود عن دين الله … هكذا كان حالهم وعلى هذا النهج استمرَّ من بعدهم ومن تبعهم بإحسان … دبَّت الحميَّة في نفوسهم؛ حميَّةٌ إسلاميَّة، حميّةٌ لدين الله ولشرع الله … ليست حميَّةً جاهليَّة ولا عصبيَّة قبليَّة ولا مناطقيَّة ولا فصائليَّةً ولا حزبيَّة… حميَّةٌ لدين الله حميَّةٌ لشرع الله، حميَّةٌ أيقن أصحابها أنَّ أعداءنا (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) أيًّا كان اسمكم وأيًّا كانت جماعتكم أو فصيلكم…

عندما نتحدَّث عن الحميَّة لدين الله، فنحن نتحدَّث عن سلوكٍ كان ظاهرًا جليًّا في العديد من الأمثلة المشهورة التي عرفها تاريخ المسلمين المُشرق، وما هذه الأمثلة إلَّا غيضٌ من فيض ممّا عرفه تاريخنا …

عندما نتحدث عن الحميَّة لدين الله فنحن نتحدَّث عن قوَّةٍ تسري في قلب المؤمن، تزداد بازدياد إيمانه، فكلَّما زاد إيمان المؤمن زادت غيرته على دين الله وزادت حميَّته لأجل شرع الله … ما لذي دفع الفتى المسلمً لقتل الصائغ اليهودي في بني قينقاع عندما كشف ذاك الخبيث عورة مسلمة، قتل الصائغ وسط أهله وقومه ولم يفكِّر بأنهم سيقتلونه فورًا فهي الحميَّة لدين الله والغيرة على أعراض المسلمين، عندما نتحدث عن الحميَّة لدين الله لا بدَّ أن نذكر العريس حنظلة بن أبي عامر – رضي الله عنه – الذي ترك عروسه صبيحة عرسه ولمَّا يغتسل بعد، وخرَج ليُجيبَ منادي الجهاد يوم أحد حميَّةً وغيرةً على دين الله، فقتل فغسَّلته ملائكة الرحمن، عندما نتحدَّث عن الغيرة على دين الله لا نذكر الرجال فقط بل نذكر أيضًا النساء المؤمنات اللواتي دبَّت الحميَّة الإسلاميَّة أيضًا في نفوسهنَّ فكنَّ يخرجن مع النبيِّ يداوين الجرحى ويسقين العطشى، نذكر أمِّ عمارة التي ما التفت رسول الله إلا ووجدها تقاتل دونه يوم أحد نذكُر أمَّ عمارة وقد دفعت زوجها وأولادها للقاتل مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، عندما نتحدث أيُّها السادة عن الحميَّة لدين الله، فلابدَّ أن نذكر فقراء الصحابة من الذين أتوا يريدون الغزو فلم يجدوا ما يحملهم النبي – صلى الله عليه وسلم – عليه، فتَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ، عندما نتحدَّث عن الغيرة على دين الله فلابدَّ أن نذكر عمير بن أبي وقَّاص الذي ردَّه النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الجيش يوم بدرٍ لِصِغرِ سنِّه – حميَّةٌ دبَّت حتَّى في قلوب الأطفال واليافعين، حميَّةٌ إسلاميَّة يردُّ فيها النبي صغار الصحابة عن القتال – فيختبئُ عمير خلف الصحابة ويبكي، فيأذِن له النبي – صلى الله عليه وسلم – ويعقد له حمائل سيفه فجعل سيفه يخطُّ في الأرض لقِصَر قامته فقاتل وقَتَلَ وقُتِل يوم بدرٍ شهيدًا،
عندما نتحدَّث عن بطولة الأطفال واليافعين وعن الحميَّة لدين الله فلابدَّ أن نذكر صغار الصحابة الذين ربُّوا من نعومة أظافرهم على الغيرة على دين الله …

نذكر بطولة مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ – رضي الله عنهما وقد روى البخاري ومسلم عن عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبا جَهْلٍ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا فَتَعَجَّبْتُ لِذلِكَ [هذا الفتى اليافع تدبُّ فيه هذه الحميَّة وهذه الغيرة على الله ورسوله … قال عبد الرحمن:] فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا… فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاس، قلْتُ: أَلاَ إِنَّ هذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفِيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ ….”

حميَّةٌ إسلاميَّة تكون في قلوب المؤمنين حقًّا، حميَّةٌ تأنف معها نفوسهم الذلَّ، تأنف نفوسهم أن يعيشوا عيشة البهائم (يأكلون ويشربون ويبذرون الذريَّة) إن هم كالأنعام بل هم أضل !!
عندما نذكر الحميَّة لدين الله والغيرة على شرع الله فلابدَّ أن نذكر عبد الله بن حذافة السهمي – رضي الله عنه – وقد أسره الروم فجاع وعطِش فقدَّموا له الخمر والخِنزير فيأبى قائلًا: أما إني أعلم أنها قد حلَّت لي للضرورة ولكنِّي كرهت أن أشمِّتكم بالإسلام … (جاع وعطش وأحل له ذلك للضرورة وتأنف نفسه أن يُشمِّت العدا بالإسلام والمسلمين…)

لا يريد أن يشمِّتهم بالإسلام لأجل طعامٍ يأكله فكيف بنا وقد أتى على الناس زمانٌ أصبحوا فيه يغارون على توافه الأشياء ولا يغارون على دين الله، ولا يغارون على دماء المسلمين، ولا يغارون على أعراض المسلمات، يدَّعون الإسلام وعندهم حميَّة للباطل، أكثر من الحميَّة لدين الله.

حميّةٌ للباطل تأزُّها الشياطين؛ شياطين الإنس والجن تأزُّهم أزًّا … أمَّا الحميَّة الإسلاميَّة فمصدرها قلبٌ يغلي ويشتعلُ إيمانًا ويقينًا… تلك الحميَّة هي التي تدفع صاحبها للتضحية والبذل والعطاء.

الحمد لله أن أسعفنا بهذه الثورة المباركة لتعود تلك الروح تنمو وتلك الإيمانيات تسمو، وانكشفَ زيفُ الزائفين، وبُطل المُبطلين، وبدأ ينشأُ لدينا جيلٌ جديد يغارُ على حرمات الله، جيلٌ تدفعهُ حميَّته الإسلامية للبذل والعطاء، والصبر والإباء، جيلٌ يجدد لنا صور الحميَّة لدين الله، جيلٌ يحارب أمم الأرض قاطبةً، يحارب الأعداء المجرمين، الروس الشيوعيين والمجوس الإيرانيين، ومن ورائهم أمريكا والإسرائيليين ومن معهم، جيلٌ يقاتلهم جميعًا، جيلٌ لا يفتُّ في عضُدِه تخذيل المخذِّلين ولا قعود القاعدين، حتى ولو كانوا من الأهل المخذِّلين الذين يأخذون دور الشياطين بدل أن يكونوا مُشجِّعين مؤازرين مناصرين … جيلٌ سمَت روحه وعلت همَّته، جيلٌ لم يربِّه النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا الصحابة، فأراد الله له أن يكون أشبه بموسى الذي ربِّي في قصر فرعون، جيلٌ أتى في زمان الفساد الذي قال عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ”، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ. قَالَ: “بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْكُمْ”.

للعامل في هذا الزمان، أجر خمسين من الصحابة الكرام.

أجر خمسين من الصحابة، لشبابٍ ولرجالٍ ولشيوخٍ ولنساء ولأطفالٍ وليافعين عانق الإيمان أرواحهم، وسرت الحميَّة للدين في قلوبهم فكانوا بحق خير نماذج للحميَّة على دين الله وللغيرة على أمَّة الإسلام، تلك الغيرة الصادقة التي تتجسَّدُ غضبًا وألمًا على حقٍّ يُهانُ ويُقهرُ، غضبًا على باطلٌ يُحمى وينصرُ، الغيرة الحقيقية أيُّها السادة، هي التي ينتج عن ألمها وغضبها مساندة الحقِّ ومقاومةَ الباطل سعيًا وعملًا، صبرًا ومصابرة، جدًّا ومبادرة.
رأينا بأعيننا أيُّها الإخوة شيوخًا كهولا أبت عزَّة نفوسهم أن يكونوا من القاعدين، فآثروا الرباط ببنادقهم مع المرابطين، وأقاموا الحُجَة على الشباب المتقاعسين، رأينا في زماننا نساءً هاجرن مع أزواجهنَّ فجاهدن وداوين وعالجن الجرحى وعلَّمن الأطفال، رأينا بأعيننا كيف يقاتل المصاب والمبتور والمطعون لا يثبِّته إلا الحميَّة لدين الله، والنصرة لشرع الله، رأينا بأعيننا أطفالا وشبابا صغارًا يقولون لن يدخل الروافض المجوس والروس الملحدون إلَّا على أجسادنا، صدَقوا اللهَ فصدقهم وما العشرات من الشهداء والجرحى في اليومين الماضيين إلا مِصداق دعوانا…

إخوانكم يبذلون الغالي والرخيص والنفس والنفيس ثمَّ يأتي البعض بكل بساطة ليقيس الأمر ببضع أمتار تقدَّم العدو لها أو انسحب المجاهدون منها !!!

ما هكذا تقاس الأمور أبدا، الأمور تقاس بأنَّ هناك أبطال صناديد فيهم حميَّة الإسلام، وعزَّة المسلمين الصادقين، ثبتوا ثبات الجبال بأسلحتهم الخفيفة في وجه أعتى قوَّةٍ على الأرض، ولم ولن يدعوا العدو يهنأ، ثبتوا وقدَّموا أرواحهم ووصلوا لآخِر طريقهم على ما يُرضي ربَّهم، ولكنَّ العترة عليكم، هم بدأوا طريق الحقِّ ووصلوا لآخِر مشوارِهم وبذلوا أرواحهم مِصداقًا لصِدقهم، فماذا فعلت وماذا قدَّمت أيُّها المسلم، يا من تجلس مُتفرِّجًا وأعداؤك الكفَّار (( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (التوبة:32).

ألا يكفيك عيبًا يا من تدَّعي الإسلام، أن يكون أهل الكفر والأوثان أشدَّ حميَّةً وبذلًا لكفرهم ولدينهم من حميَّتك وبذلك لدينك!!

الكفَّارُ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وبما يرِّجونه، وبعض الأغبياء والسذَّج والمُخذِّلين والمنافقين والعملاء يفعلون ذلك بتخذيلهم وإرجافهم.

أيُعقلُ أن تكون أيُّها المسلم في معركة أمَّة الإسلام مع أمم الكُفر ولا تدبُّ فيك الغيرة ولا الحميَّة لدين الله، وفي المقابِل الكفَّار والملحدون والضُلّال تدفعهم حميَّتهم وتؤزُّهم شياطينهم على نصرة باطلهم!!

( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (صّ:6).
يصبرون على الشدَّة بل وينفقون الأموال، (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) (لأنفال:36).

كلنا يقين وكلنا ثقةٌ بذلك اللَّهِ، سَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ… ولكن أين جهدك وأين بذلك بل أين نخوتك وأين غيرتك وحميَّتك لأجل دينك، أين عهدك مع ربِّك؟ (( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) (المائدة:7)
الله تعالى عليمٌ بصدرك أيًّا كانت علانيتك أو سريرتك، يا من تتوهم أنَّك قد تنجو مِن دون إخوانك… أذكِّرك أنَّ الحرب حربٌ واحدة، وكلُّ منتسبٍ إلى أهل السنَّة مستهدف، اتق الله تعالى فالله يعلم ما في الصدور، اللهم أصلح فساد صدورنا واجعل سرَّنا خيرًا من علانيتنا، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن، أمَّا بعد إخوة الإيمان:
ونحن نتحدث عن الغيرة والحميَّة لدين الله، قد يتوهَّم المتوهِّمون ويظنُّ الظانُّون أنَّ ما نذكره حِكرٌ على الصائمين المُصلِّين، على الذاكرين القانتين، على المُزكِّين المتصدِّقين المُنفقين !!..

الغَيرة والحميَّة أيُّها الإخوة قد تكون من مقصِّر… مقصِّرٍ مبتلى، مقصِّرٍ يستشعر تقصيره مع ربِّه، ولكنَّ نفسه العزيزة تأبى إلَّا أن تغار على دين الله، وأن يستشعر الحميَّة لشرع الله… ولعلَّ قصَّة أبي محجن الثقفي المشهورة خيرُ مثالٍ على ذلك، وقد كان ذلك زمن التابعين والصحابة يوم القادسيَّة، وأبو محجن كان سكِّيرًا يسكرُ ويُجلد، يسكرُ ويُجلد ويقام عليه الحدُّ … ولا يتوب فشربها يوم القادسيَّة، فعاقبهُ سعدٌ بن أبي وقَّاص – رضي الله عنه – وكبَّلهُ بالقيود، فلما اشتدَّ القتال وحميَّ الوطيس وضرب القنا بالقنا، أخذت أبا مَحجن الغيرةَ لدين الله والحميةُ للإسلام وأهله فأنشد قائلًا:

كفى حزناً أن تلتقي الخيل بالقنا *** وأترك مشدوداً علي وَثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغُلِّقت *** مصاريع مع دوني قد تصم المنادي
ارمني سلاحي لا أبا لك إنني *** أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
ولله عهدٌ لا أبخس بعهده *** لئن أفرجت ألاَّ أزور الحوانيا

فسمعته امرأة سعد – رضي الله عنه -، فرقَّ قلبها عليه فأخرجته من السجن وأعطتهُ سلاحًا وفرسًا، فشقَّ الصفوف مُسرِعًا، وقاتل في القادسيَّةِ خير قتال، فصال وجال وفع فِعله في العدو.

أيّها السادة الكرام:
إنَّ مفهوم الغيرة والحميَّة لدين الله مفهومٌ يجب أن يكون حاضرًا في قلب وعقل كلِّ من قال (لا إله إلا الله) وإن كان مُقصِّرًا، وإن كان مسرفًا على نفسه… فإسرافه على نفسه بينه وبين ربِّه، هو من سيحاسبه عليه.

بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل في الصحيحين سقت كلبًا بموقِها فغُفِر لها به!! أفلا يُغفر لمسلمٍ مقصِّر عنده حميَّةٌ ونخوةٌ لدين الله؟!!

كثيرٌ من الناس في زماننا نراهم يغمزون ويلمزون وبتقصير بعض المجاهدين يتكلَّمون، وينسى أولئك الهُمَزَة اللُّمزة أن يكفي إخوانهم شرفا ما بهم من غيرةٍ وحميَّةٍ ورجولة، ما بهم من غيرةٍ تدفعهم ليصدُّوا عنا العدا، ما بهم من حميَّةٍ تدفعهم ليردُّوا الأعداء عن أعراضنا…

والله كثير من أولئك الشباب وإن بدر منهم تقصير، خير عند الله مكانًا من كثيرٍ مِنَ العبَّادِ الزُّهاد، مِن كثيرٍ من مُلازمي المساجِد وأصحاب النوافل ممن فقدوا النخوة في قلوبهم، ممَّن لا يملكون الحميَّة لدينهم، ممَّن لم يهبُّوا لنصرة دينهم …

لقد كذبوا واللهِ في حبِّهم… لو كانوا يُحبُّون الله ورسوله حقًّا لضحوا في سبيل حبِّهم، فلا يُنصرُ الله ورسوله بصلاة ولا بصيام، ولا يُنصرُ باعتكافٍ ولا أذكار… هذا جيِّدٌ مطلوب ولكنَّ هذا لا يُظهِرُ حبَّك…

دعوى الحبِّ الحقيقية، تبذل من أجلها أموالٌ ونفوس، ضحَّى من أجلها المضحّون بالدماء والأرواح والأعراض، أولئك هم المُحبُّون حقًا أيُّها السادة، فعندما نتحدَّث عن الحبِّ والمُحبِّين، فنحن نتحدَّث عن الغيرة والغيورين، نتحدثُ عن أهل الحميَّة، نتحدَّثُ عن الأسودِ المزمجرة، والصواعقِ المدمرة، نتحدَّث عن الرجالِ حقاً والأبطال صدقاً، نتحدَّث عن الذين رسموا بدمائهم وصمودهم أجملَ لوحاتِ العزِّ والشرف التي سيدوِّنها التاريخ ما دامت الدُنيا…

إذا الأحرار في الهيجا تنادَوا *** عواصِفُ لا يؤخرهم مَقال
تراهم في الأمان رجالَ دين *** وعند المكرمات البيض صالوا
فسيروا للجهاد بكلِّ عزمٍ *** فإن النصر يصنعه الرجال

وأين هم الرجال؟؟ وكم من الذكور لدينا، وكم هم قليلٌ الرجال، شتَّان شتَّان …

إذ لا يكون الذكرُ رجُلا إلَّا أن يكون صاحب نخوةٍ وصاحِب ناموس، وصاحب عِزَّة نفسٍ وأنفة، صاحب حميَّةٍ وغيرة… أمّا عديم النخوة الذي لا يزود عن دينه وعِرضه، فهذا ذكرٌ بين الذكور ولا يكون رجُلا ولا يُعدُّ مِن الرجال…

أيُّها السادة الكرام: نحن نعلم يقينًا أن نصر الله للمؤمنين آتٍ لا محالة، ولكنَّنا نعلم أنَّ النصرُ نورٌ مرتقبٌ وقوده دماءِ الشهداء، ودعوات الأتقياء، وأموال الأغنياء. شروطهُ صبرٌ على البلاءِ وشكرٌ عند الرخاء، ووفاءٌ مع خالقِ الأرضِ والسماء، (( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) (الروم:5).

اللهم أيدنا بنصرك، وأمدَّنا بمددك، وارحمنا بجودك وفضلك يا رحيم…

إنّي داعٍ فأمِّنوا

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *